ملتقـــــى جمعيـــة الوشــــم الأدبــــي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى جمعية الوشم الأدبي ببنقردان فضاء مفتوح لكل المبدعين
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خبر النقيشة ( الجزء الثاني )

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سالم دمدوم

سالم دمدوم


عدد الرسائل : 22
تاريخ التسجيل : 04/01/2008

خبر النقيشة  ( الجزء الثاني ) Empty
مُساهمةموضوع: خبر النقيشة ( الجزء الثاني )   خبر النقيشة  ( الجزء الثاني ) I_icon_minitimeالأربعاء يناير 09, 2008 12:06 pm

- الورقة الثانية :
... وهكذا صرنا نتابع أخبار هذا الرجل بمزيد من الحرص والتحري ،حتى وجدنا يوما شابا ،حكى عنه الخبر التالي :
كنا مجموعة طلبة جمعتنا إجازة الصيف ، أخذنا نقترب مـن " أحمد عنبه " قليلا قليلا، ونحاول إقامة علاقة ودّ معه، لأننا كنا نراه ليس معتوها عاديا، بناء على ما كان يأتيه من تصرفات وما يقوم به من أفعال إلى جانب بعض الشائعات التي سمعناها عنه فكان أحيانا يأنس بنا ،ويجلس إلينا، فيبكينا مرة ويضحكنا مرات! وأصبح ينادينا بإخـوان الصفاء ، والحواريين ، ورفاق السلاح ، مما جعلنا نتأكد أن الرجل كان مثقفا .
وذات ليلة أخذناه معنا إلى مكان منعزل، على شاطئ مهجور، يقع قرب غابة طبيعية كثيفة الأشجار، وأقمنا " حضرة " رقصنا جميعا على دق البنادير، ورقص معنا طويلا، حتى بدأ يتصبّب عرقا وأخذ يقوم بحركات غريبة عنيفة أخافتنا كثيرا ! ثم بعد ذلك وقع طريحا ، فتحلقنا حوله صامتين! أخذنا الخوف من أن يموت فنصبـح متّهميـن بقتله ...كنا أحيانا نسمع تردّد أنفاسه شهيقا عميقا طويلا، وأحيانا يمضي في سبات حتى لا يكاد يحس له نفس فنبقى حوله صامتين ، حتى إذا انتظمت أنفاسه وعادت إلى هدوئها فرحنا وناديناه . فيقوم متثاقلا ثم يفرك عينيه ويتطلّع إلى البحر ويقول :
انظروا ! هاهو الزورق يتقدم ... انظروا . انظروا ...
نظرنا إلى البحر، فإذا هو كالعادة ساكن هادئ، به مويجات صغيرة تتكسر عليها أشعة القمر، وتُتَوِّجها أحيانا فقاقيع رغوة بيضاء ، ولا شيء غير ذلك ،ولكنه واصل قائلا :
ألم تروها ... تأملوا جيدا ، ألم تروها ، إنها علياء وتلك التي معها أتعرفونها إنها هدى ، هدى . والهف قلبي عليها ، كيف اِستطاعت الإفلات منهم . هاهي تعانق علياء وتضمها في فرح! هيا معي نستقبلها .
قال ذلك ثم اندفع إلى البحر وخاض الماء عدوا . اِلتحقنا به وتشبثنا بثيابه ،حتى أرجعناه إلى اليابسة ، فأخذ ينتحب باكيا بكاء حقيقيا ، تنهمر له دموعه بغزارة، مردّدا بين الحين والحين فيما يشبه النواح :
لهف نفسي عليك ، لقد شلّ الرفاق ذراعي وخذلوني فمنعوني من احتضانك ، فلا إليك ولا إلى علياء اِستطعت الوصول . ثم أخذ في نشيج أليم مدة من الزمن، حتى أخذته سنة من النوم فهمد، عندما استيقظ تمطى شديدا ثم التفت إلينا و قال :
أنتم مازلتم هنا يا أولاد الكلاب، تتجسسون علي ، اغربوا عن وجهي تفرقوا مثل القطط الضابعة ،و تسافدوا كالبوم في الظلام ، اِدفنوا خزيكم و عاركم في أحضان الغواني و المومسات .
قال ذلك ثم أخذته نوبة من هستيريا فظيعة، فاحمرت عيـناه
وعلا شفتيه، الزبد كالجمل الهائج، ثم هجم علينا بعصا غليظه، تعود أن يجعل لها حمائل، يضعها على ظهره كالبندقية. فقررنا منه مرعوبين ، أمّا هو فقد يمّم الغابة و غاب بين أدغالهـا وابتلعه الظلام بعد أفول القمر .
توقفنا جميعا لما تركنا ،و بقينا مدة نستمع، فإذا لغط وصراخ و أصوات تنكسر كأنها وقع السيوف على السيوف وثمة من سمع حمحمة خيل و ارتجاز فرسان في ساحة وغَى.
تأكد لنا أن صاحبنا ليس مجنونا عاديّا ،و عقدنا العزم على أن نسعى لدى الجهات المختصة كي يعاد فحصــه مـن جديـد .و يقع تدارك أمره و إنقاذه وتكفّلت مجموعة بإعداد نداء إلى كل من يعرف عنه شيئا أو يملك وثائق تخصّه أن يقدمها إلى رئيس اللجنة في أقرب الآجال ... وتمّ نشر هذا النداء في أغلب الصحف ...
صفحات من مذكرات الدكتور مسعود ...
حاولت النسيان . حاولت . حاولت.....
تعليق صغير
( ثمة فقرة كاملة تعرضت لبلل ما فأمّحت وأصبح من العسير قرائتها).

أحسست أن فكري يتصحر . الأشياء لم تعد لها دلالاتها العادية ثمة إنزياح رهيب طال كل شيء !
أصدقاء الأمس أصبحت أحس أنهم أغراب . شعارات كنا رفعناها معا وقفنا وراءها بصلابة – اختفت . والذين رفعوها انقلبوا عليها ... صار الثوار خونة . ركبوا كل ريح ، أخيرا دمروا أوطانهم ! الإخوة يتآمرون عليك. يغلون يديــك ورجليك ويقدمونـك للجلاّد... يحوكون حولك مؤامـرة الصمـت يسلكون مسلك القرود الثلاث في تلك الأسطورة الشهيرة حيث يعمد أحدها إلى إغلاق فمه فلا يتكلم !ويعمد الثاني إلى إغماض عينه فلا يرى! والثالث يصم أذنيه فلا يسمع !وكما في كل أسطورة ثمة دائما شيء مثير للإرباك نصدق وننبهر ونتعجب أم نشك ونرفض؟!
يالها من فضاعة أن ترى هذا يحـدث .. هل حدث ذلـك فـعلا ... إني أحيانا أشك في كون ما يحدث مجرد خـيالات وهلوسات تجري في ذهني أنا وحدي ! .
تجتاحني أحيانا حالة لا مبالاة غريبة! لم يعد لأي شيء طعم لا الشعر ولا الفن ولا الموسيقى ... الأمكنة أصبحت تثير في نفسي نوعا من العداء لها ! خرجت عن حيادها الطبيعي ... الناس أراهم ولا أراهم ! أحيانا أحاول أن أخلو بنفسي فلا أجد فرصة لذلك . تحاصرني الآلة من كل مكان . الحاسوب في المنزل والحاسوب في المكتـب و فـي المحفظة ،والهاتف الجوال، والقار ،والفضائيات، على اختلاف أهدافها، كلها تستبد بي، ولا تترك لي فرصة الإنفراد بذاتي ،كي أرتب نفسي من الداخل أعيد تأثيث ذاتي على نحو صحيح .
قررت أخيرا أن أبتعد عن الأمكنة التي تعودت الإقامة فيها ! قلت: لعل ذلك يتيح العودة إلى التعاطف مع الأزمنة والأمكنة كما كنت سابقا ،لكن للأسف لم يتحقق ذلك! لازمتني حالة حياد عاطفي حيال كل شيء . حالة من الإنبتات فضيعة، لم أتعرض لها في حياتي .
في ما مضى كان الكتاب صديقا رائعا ،يتيح لي لذّات فائقة، يهبني شغفا بالحياة ،والناس والأشياء يرحل بي إلى عوالم أثيرية تستفز الخواطر، وتحرك هامد الحس ، ونائم المشاعر .فأغدو حين أظفر بكتاب جيّد ، متوهج الفكر والخيال ،مقبلا على الحياة ومسرّاتها بشغف الأطفال .الآن كل شيء تخشّب !صار بلا معنى ،كل الكتب تشابهت في نظري، وأصبحت مملة متنًا وهامشًا .
انزاحت القضايا الخطيرة، وانحشر بعض الكتّاب في النصف الأسفل من الإنسان ،فأصبح البضر والشفران ،والفرج، والقضيب، و قذارات الشرج ،والبواسير ،وما بين الأليتين والشفرين وافرازاتها شيئا يستطيبه القراء ويستهوي الناشرين .
إني أتساءل : هل تغيرت الأشياء أم أنا الذي تغيرت ؟!
قد تتغير بعض الأشياء، ولكن ليس بهذا القدر ! فهل أنا هو الذي يحمل جرثومة هذا الداء الذي بدأ يستفحـل في ذاتي ! يجعلني أرى الأشياء على خلاف ما يرى الآخرون .
...منذ أن انقطعت رسائلها ومكالماتها بعد أن أصبحت في عالم غير عالمنا ،لم يعد أي شيء ولا أي متعة من متع الحياة يستثير في نفسي حتى أقل قدر من الإغراء.
حاولت النسيان .. لهثت وراءه بكل الجهد ،ولكن لم أفلح. بعدها لم أعد قادرا حتى على احصاء الخسائر .
قلة هم الذين يعرفون ما معنى احصاء الخسائر بعد هبوب العواصف .
... هو قال : " بعد أن تمر العاصفة ويتوقف هديرها المرعب سيعود الهدوء إلى الأشياء ونألف في شيء من الهدوء شفافية السّكون . عندها تهدأ مياه البحيرة ويكون في الأمكان البحث عن سوار الأميرة تحت ضوء القمر... "
كاتب هذه الكلمات أتراه يعي جيّدا قانون العواصف ؟! إثر كل عاصفة مهما كان نوعها لا بد من خسائر وتشوهات أتراه أدرك مرة فجيعة إحصاء الخسائر ؟! هل أحس يوما وجع الفقد ؟ عذبات البقاء وحيدا عندما يرحل الآخرون من هم علينا أعزاء..
بعد موتها تعطل كل شيء وتغير ، هدوء الصمت ، لم يعد يهب الأمان النفسي ، الذي يجعل الخواطر تسرح في حرية ترتاد فلوات الحلم ، بما فيها من روعة وجمال . ترحل أحيانا في لحظات الغفلة يحدث ذلك أحيـانا ،هـذا صحيـح ،ولكن سريعا ما تتوقف عند الحدث ! يعود الرعب فيفترس كل شيء ! يستحيل الصمت هديرا وصراخا وأصواتا رهيبة، و تتجاذب صور المآسي ، المجاعــات والمظالم، الأموات الدّمار ... فأضطر للهرب من السكون ، أتعمد الخروج إلى الشارع المزدحم ، أتجول في الأسواق . كنت في سنوات سابقة عندما يعتريني الإجهاد أتعمد ارتياد الأسواق ، ألتذ بسماع باعة الخوخ والتفاح والمشمش يتغزلون بهذه الغلال الرائعة ، يفتحون للناس نوافذ للحلم، للإشتهاء ، للحب ، ولأشياء أخرى جميلة ، ولكن هذه المرة لم أعد أسمع ذلك الغزل البريء !...
أعمد أحيانا إلى ولوج الأسواق الأسبوعية في مواسم الأعياد.
كان يلذ لي أن أشاهد الأطفال بمرحهم ولعبهم وألعابهم أتعمد ذلك عله يحيى في نفسي ولعها القديم، ببراءة الأطفال، في تصرفاتهم مع ألعابهم.غير أني صرت أصدم هنا أيضا ! أكثر اللعب تختصر عالما من الرعب . كلها أسلحة، طائرات، دبابات، رشاشات، جنود في حالة ممارسة للقتل ! والأطفال ببراءتهم، يمثلون أدوار القنص، والقصف، والدك ! أغلب اللعب تسيّر بالأزرار . يقع التحكم فيها عن بعد ، هل أصبحنا نعيش عصر الأزرار هل أصبحت لمسة ناعمة على زرّ أخرس تحمل عالما كاملا من النقيض إلى النقيض .
تأخذني هذه المشاهد والأفكار إلى نقطة البداية دائما.. إلى لمسة ناعمة على زرّ تحدث كارثة ...
عجبا كيف ابتلعكِ العدم في لحظة ؟! في جوف أي قرش أنتِ الآن ؟.. في أعماق أي المحيطات ؟ بين صخور أي عماق؟ أي كلاب بحر اتخذت منك وليمة لها ؟ سيظل دائما ثمة أشرار يهيئون الولائم لكلاب البحر والبرّ، وللآخرين مواكب العزاء والحسرة .
إني أتساءل :
لو لم تسافري، لو لم تكوني متفوقة، لو لم تكوني مسكونة برغبة المعرفة والتميز، تحقيق الأجمل والأفضل. هل كان يحــدث ما حدث؟!
تجتاحني أحيانا حالة ندم فضيع، تعذبني بعقدة أنني ربما كنت السبب، لأني لم أمنعك من السّفر والمشاركة في تلك الدورة ! هل كان ذلك ممكنا ،وأنت من أنت لدي؟ ... هل تتيح لي قناعاتي أن أقف أمام طموحاتك المشروعة ، رغبتك في تحقيق الأفضل ،وأنت قادرة تماما على ذلك ؟
فات أوان هذا القول بالتأكيد. ومع ذلك مازلت أتساءل : من هم الذين اغتالوكِ ؟! القدر ؟ الصدفة ؟ الآخرون ؟ هل كنت مقصودة بذلك الفعل . أم أن الصدفة وحدها هي التي جعلتك في ذلك المكان في نفس تلك اللحظة؟ لحظة حدوث الكارثة ، حيث يعمد مجرم بكل برود القتلة المحترفين إلى لمسة ناعمة على زر أخرس !
بقية وثيقة أخرى التهمت النيران أغلبها
لقد كنتِ ينبوعا متدفقا من العطاء والعطف والحنان، استطاع أن يجرف كل ما ترسب في حياتي من انكسارات وتفاهة وخيبات.
وجدت فيك منذ أن انجذبنا إلى بعضنا بطريقة غريبة أراد القدر أن يسوق بها دليلا آخر على أنه قادر على فعل العجائب. أحداث أشياء كبيرة بطرق غير معقولة !
وجدت فيك حنان الأم، وأعجاب الأخت ،وروعة الحبيبة، وهوس العشيقة ، ثم بتقدم العلاقة بيننا تصيرين شيئا آخر تماما، يحتويني كما يحتوي البحر كلّ ما فيه ! .
ماذا أصير بعدك أنا...
ورقة من كنش مذكرات الدكتورة فاطمة : عبد السّلام
...كنتُ مخطئة ! لأكثر من سنة كنت أمارس خطأ فضيعا! ليغفر لي الله . لم يكن يهمني المرضى ! السجلات هي التي تهمني ! الأرقام ، تضمين الوصولات ، تدوين درجات الحرارة ، الصور بالأشعة كمية الأدوية ، التغذية ومدى استجابتها للتوصيات ، أما المريض فذاك شأن آخر ، لا أصرخ في وجه الوصلات والوثائق والتقارير ، لكني أصرخ بشراسة أحيانا في وجوه بعض المرضى الذين يبحثون في الغالب عن بسمة أمل ، لمسة حنان ،لحظات حوار تقرب إلى الحميمية !
جاء هذا المريض فانقلب كل شيء في سلوكي من النقيض إلى النقيض . لا أدري كيف ولأي سبب؟! ، هل أنا أعطف عليه بدافع إنساني مهني لا غير؟ لماذا أجد نفسي مدفوعة بقوة أجهلها إلى غرفته والبقاء إلى جانبه أطول وقـت ممكن؟ .. لماذا أحرص على مرافقة الممرضة وهي تباشر معالجته . لماذا ارتجف عندما يتألم هو لوخز الإبرة ؟! شيء آخر لماذا أحس أن الجناح الذي يقيم به أكثر إشـراقـا ونظافة ... لماذا أحرص على تغيير الأزهار بمزهرية بيته كلما أذبلتها نسمات أواخر الربيع؟!... دعني أكون صادقة مع نفسي . لماذا أحس للمسة يده دفء الأنفاس ونعـومة الحـرير و أشياء أخرى؟
لا أدري ... وعليّ أن أتوقف وأترك بقية مشاعري على سفوح الحلم تنتظر انهطال المطر ...
صفحة من مذكرات ناظر المستشفى الذي عالج فيه الدكتور مسعود :
...لقد اعتبرت حالة الدكتور مسعود مستعصية، بل أكاد أقول أنها ميؤوس منها .ولكني مع ذلك لم أيأس .
...كلفت الدكتورة فاطمة عبد السّلام بالاهتمام به والإشراف على ملفه الصحي :
الدكتورة فاطمة عبد السلام ذات كفاءة عالية لكنها تعرضت تعرضت لشرخ عاطفي جعلها تنطوي على نفسها متلبسة بحالة من الكآبة واليأس جعلت بعض زميلاتها وزملائها يعاملونها معاملة خاصة . وكنت أقصد من وراء تكليفها ذاك أن أجعلها تتعامل مع وضع تكتشف معه أن ما حلّ بها لا يساوي شيئا أمام مصائب الآخرين! ولقد رأى بعض الزملاء تصرفي هذا غير وجيه ،وغير مناسب فوضع الطبيبة فاطمة هو نفسه في حاجة إلى رعاية خاصة. غير أني أردت أن أجرّب فهي قبل أن تصاب بذلك الشرخ كانت من خيرة ما عندي من إطارات في المؤسسة .
بعد أسبوعين لاحظت تحسنا في وضع المريض ، فقد فارقته تلك العدائية التي واجه بها كل من اقترب منه أول الأمر، وتعلق بطبيبته تعلقا غريبا ،وصار يرفض كل انسان مهما كان إلاّ بصحبة فاطمة وكنت سعيدا .
بعد شهر من المراقبة لاحظت ما أذهلني :
أن الدكتورة خرجت من حالة الكآبة التي لازمتها طوال خمسة عشر شهرا !دبّ في وجهها شيء من الألق افتقدناه طويلا . أصبحت تطالعك على محياها بسمة غير مصطنعة تلحظ بوضوح أنها أصبحت تهتم بمظهرها: تضع زينة خفيفة وتستعمل عطرا هادئا حالما، تقبل على مريضها بروح تلمح فيها العطف والحنان والرغبة الصادقة في مساعدته على الشفاء وكان هو يستجيب لها استجابة جيدة. بدأت تخرجه شيئا فشيئا من حالة الوحشية التي كانت تجعل منه احيانا وحشا كاسرا ولقد لاحظنا أنها أحيانا تتبادل معه النوادر والحكايات وصار هو يتقبل الأدوية والفحوص بكل سرور ويستجيب لها بروح متآزرة متعاونة، مما جعلني أدوّن في السجلات بأن المريض اجتاز مرحلة الخطر بواستطها وكاعتراف بما بذلته الدكتورة فاطمة من جهد، وما وصلت إليه من نتائج، فقد قدمت توصية إلى مجلس الإدارة بترقيتها درجتين، وقررت بيني وبين نفسي اختيارها لبعثة دراسية على مستوى رفيع.
جزء من رسالة قديمة ...لست أدري لماذا كانت رسائلي إليك كمشاعري نحوك موسومة بتلك الحالة العجيبة التي تتلبسنا كلما حاولنا ارتياد مناطق واقعة بين المباح والمحذور، تلك الحالة التي نتعرض لها أثناء ممارستنا الأولى لأشياء بين الحب والقدسية ؟هل هي "عقدة أديب " مازلت تلازمني بطريقة أخرى.
هل أنت فعلا عشبة خلود محرمة ، تزرع في نفسي ذلك الارتعاش الملتبس بين الرغبة والخوف . بين الاشتهاء والخجل؟
لا أدري !ما أحسه أن رعشة الملامسة الأولى، رعشـة التهيـب
و الاشتهاء، رعشة تجاوز البكارة تعتريني دائماكلما أخذت القلم لأكتب إليك، فهل أن استحضارك في ذهني، يزرعني في غابات مؤثثة بالشك وجسامة الروعة.
هل أني أراك دوما.هرما وأسطورة . حاضرة بغيابها أشّد مما هي بحضورها.
ها أني بعدك أتأمل صورة وضعتها أنت في قاعة الاستقبال.لوحة الفنان " بيتر بروقل " لعب الأطفال. جسد فيها ذلك الرسام الملحمي كمّا هائلا من ألعاب الأطفال وهرجهم .كانت تمنحنا أنا وأنت سعادة عظيمة . تمنحني شخصيا تأشيرة الاغتراب عن الواقع لحظات .تمنحني فسحة حلم جميل أحضن اثناءها أملاً أخضر.
اليوم.. مار أيتها مرة إلا كان طيفك حاضرا.. كنت أنت من يحضنها ويضعها في مكانها هناك. طيفك يسعّر عذابات فقدك. فتغتالني حالات وجوم واكتئاب رهيبة .
فكرت في إزالتها وإبعادها عني حتى لا أراها . وفعلت ذلك . فإذا مكانها الخالي أشد لوعة واستحضارا لك !... بعدك أصبحت على قناعة بأن الإنسان هو الذي يهب الأماكن والأشياء وهجها وجمالها ، أنتِ من كانت تضفى عليها دلالاتها ورموزها ، بدونك أصبحت خلاء لا ينطوي صمته على أي معنى ، ما عدا العدم
لقد كانت الأمكنة والفضاءات الصغيرة شديدة الجمال ، بالغة الألفة ، مهموسة الدفء ! شيء ما كان يتوهج فيها ، يتضوع مع الأرغفة الساخنة ، وأنفاس قهوة الصباح ، تضعها أمامك كف حانية حبيبة تمنحك إشعاع بسمة حب صادقة ، مضمخة بشذى الحنان ، تخلّصك من صقيـع الوحشة ، والشعور بالغربة والعذاب ، تهبك فسحة حلم وفرح في زمن قاتم الكآبة قاحل الروح .
هكذا كنت تغسليلني تماما ، من الهواجس ، والتعب ، والرداءة ، وتمنحينني ذلك الإحساس المدهش ، بحب الحياة ، وروعتها ، والرغبة في مشاركة الآخرين ، في صياغة أفراحها ، بكل الإندفاع والغبطة .
جزء من وثيقة أخرى :
... أن عينيها عصفورتان اغتسلتا مرات عديدة في بحيرات الفرح والجنون . وأنهما مطر ينهطل حبّا وتسامحا ومغفرة ، وأن النوارس والسنوسؤات تستحم في بحيرتهما ، وأنهما ترسمان ضباب البحر فوق البحر ، في أصائل الصيف وصباحاته ، وأنهما حقلان واسعان تستوطن فيهما الحمائم ، والفراشات ، والهداهد ، وطيور ابريل والسنونؤات العائدة من هجرة بعيدة . وأنهما غديران صافيان تتطهر فيهما أسراب القطا ، والحجل والمها والآيائل والغزلان .
غموض الصحاري واتساعها، طهرها وعفتها حيت لم تزل ترانيم نزول الديانات السماوية تشيع ذلك الدفء اللامع الهدوء المؤنس الذي يجعل من أحسه يوما لا يشفي منه أبدا ! يضلّ ثملا بشذاه محترقا بلضاه حتى آخر العمر .
عيونها ، أعماق ملتبسة مدهشة ، حقول شاسعة ، حيث يرقد الليل والزيتون ، والحب والصلوات ، والمآذن ، يزهر اللوز والخوخ والياسمين والحناء والورد والجدرة .
في عينيها تتألق الربى والسهول ، وتتقافز في شبه سباق لإحتضان الألق ، والنور ، والزرقة العجيبة ، التي تتغلّل بها السماء في ابريل وماي ، بذخ السنابل ، وخصب الحقول ، غناء الرعاة ، وثغاء القطيع ، وميس القطا ، وهزج الحجل ، وأنفاس المراعي .
ضحكتها بسمة الرضيع وقرقرة الملائكة ، التألق الأول للفرحة ، الإحساس البكر بالحب أو الإشتهاء ، واحتضان الحلم ، زبد الموج يمسح صهد الأسى عن صدور المراكب المتعبة ، تخصب الجدب وتشجر القحل في بساتين نفس جائعة للحبّ والألفة .
تطلعوا إلى مبسمها الرائع حيث يستحيل الألق الصدفيّ إلى عقد جوهر عجيب تنظمه لثة عذبها وهج السواك فكانت الروعة وكانت العذوبة والعذاب ، الخطيئة والطهارة ، المنفى والملكوث ، فتعبق رائحة الخزامي ، واسكير الحب ، وبحور الشعر ، وصلوات العشاق ومواجيد المتصوفين ! تنفتح أبواب الملكوث وتندكّ أسوار الدهشة فتنبت في الفلوات القاحلة أعشاب الأنبهار والروعة والخلود حيث نسير نحوها منجذبين إليها ببراءة . يستيقظ الطفل فينا فنخربش بالفحم أو الطباشير أو على رمال الشاطئ نرسم بعض حمامات صغيرة ، وأزهارا ، أو فراشات ، وأشياء أخرى ، حبيباتنا ، عرائس أمانينا ، أميرات أحلامنا . ثم نهيل الرمل على نهاراتنا المهزومة ، نغتسل ونتطهر وننتشئ فرحا بحلم جميل أكتشفنا فجأة أنه لم يمت فينا .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
خبر النقيشة ( الجزء الثاني )
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ملتقـــــى جمعيـــة الوشــــم الأدبــــي :: منتدى جمعية الوشم الأدبي :: منتدى القصة-
انتقل الى: