قراءات
رواية(سرنديب) للأديب: محمد العوني
بقلم:سالم دمدوم
من بعيد:
[...إذا كانت شجرة الصفصاف تنحني نحو جذورها كلما تقدم بها العمر، فإن الحنين إلى الطفولة ،إلى الأماكن الأولى، يصبح ملحَا إلى درجة يطغى على كل ما عداه ! ولا ينطفئ هذا الحنين إلا بأن يفيض إلى الخارج، أن يشرك به الآخرين . وهذا ما يفعله بعض الكتاب ...]
وقعت في يدي أخيرا رواية الأديب محمد العوني الموسومة ب ( سرنديب) الصادرة عن دار سحر فيفري 2008 فاستفزتني وأسعدتني في نفس الوقت!ومثلت لي شخصيا نوعا من التحدي!.
أسعدتني لأني رأيت في صدورها ظاهرة جميلة بدأت تنمو في ربوعنا الجافة :أن يتصدى رجال بعد إحالتهم على التقاعد إلى الكتابة والتأليف في أي ضرب من ضروب المعرفة والإبداع، لهو تطور هام في ربوعنا، ودليل على بلوغ درجة من الوعي والنضج جديرة بالتشجيع والتقدير . إنهم يرسمون خرائط جديدة لكنز قديم يتهدده الضياع ! يصنعون تاريخا ما ،وذلك من دواعي احترامهم ، فليست الكتابة أمرا سهلا ولا عملا مربحا في زمن صار همَ الأغلبية من الناس الربح المادي لا غير في ظل عولمة متسلطة جعلت همها تسطيح الفكر وإهمال كل القيم ما عدا القيمة التجارية ! .قلة هم ولا شك أولئك الذين يواصلون العطاء ،يختارون في بطء شديد ثم يظلون أوفياء لاختياراتهم حتى آخر العمر، متناسين تماما المنفعة المادية. "الفنانون يأتون العالم لا ليملئوا بطونهم هم ،بل لكي يهيئوا غذاء جديدا للبشرية" فما أسعدهم .! ما أسعد الإنسان حين يستطيع إشعال شمعة قبل حلول الظلام !
هذا باختصار شديد سبب سعادتي . أما ما استفزني في الرواية فأشياء كثيرة ، وبعضها مثل لي شخصيا، تحديا حقيقيا. فالرواية تقع في 264 صفحة من الحجم الكبير زيادة على خطها الدقيق مما يجعل الإبحار معها لا يخلو من تهيب ومقارعة صعاب لا يقوى عليهما كثير من القراء في هذا الزمن الذي تنبأ به ( بورخيص ) ذات يوم حين قال : هل بدأنا نقترب من الزمن الذي يصبح فيه القراء الجيدون أكثر ندرة من الكتاب الجيدين !? ولكن مع ذلك، وانطلاقا من قناعة لدي إن من أبسط حقوق المبدع على المثقفين أن يقرؤوا ما كتب وأن يحاولوا محاورته إذا كانوا فعلا يهتمون بالثقافة ويحملون رسالة وينطلقون من قضية . فمهما كانت قيمة هذا الحوار فإن فيه نماء
وإثراء وإضاءات تنير الأنفاق وتؤسس للأجمل، فصرح الثقافة لن يكتمل بناؤه أبدا! طوبى لمن يضيف إلى جدرانه لبنة ، أو يفتح في دهاليزه شرفة جديدة ...
سرنديب:
تقرأ العنوان وتتأمل صورة الغلاف لتنسحب بعيدا في أنفاق التاريخ مترسما خرائط الأساطير القديمة صحبة الرحالة والإخباريين من أمثال الطبري وابن بطوطة لتجد نفسك بأرض الهند على جبل "الراهون "حيث نزل أبونا آدم أول مرة طريدا من الجنة! وحيث ما تزال آثار أقدامه الشريفة ظاهرة للعيان كما يدعي ابن بطوطة ! . وتتزاحم الأسئلة :
ما علاقة سرنديب بقصر مدنين ? هل لأن هذا القصر كان المكان الذي استقرت به قبائل ورغمة حين عن لها أن تضع مرتكزا لطوافها عبر الصحارى ? هل ثمة علاقة بين مسعود بطل الرواية وأبينا آدم في تأرجح أقدارهما بين المنفى والملكوت? وهل " استير "بطلة الرواية العاشقة المعشوقة صورة أخرى من صور حواء أمنا الماكرة الجميلة، التي أغرت أبانا آدم بأكل التفاحة المحرمة ? وهل مسعود في النهاية صورة أخرى لجلجامش السائل ما لا يسأل، يرفض المستحيل، يناطح القدر، ويتحدى التقاليد ، ويبغي الثمرة الحرام ، الباحث دون جدوى عن عشبة الخلود?! هل كانت رحلة مسعود في الحياة إبحارا في زورق " انكيدو" بحثا عن هذه العشبة? نكاد نلمح ذلك حين نرى خيباته في حبه وتكسر أحلامه وتلاشي آماله، ونتذكر سيدوري عرافة بابل تقول ل (جلجامش ):"إلى أين تمضي يا جلجامش ، إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها !..." وهل "استير" فتاة يهودية أحبها مسعود حتى الجنون أم هي حلمنا وتوقنا إلى الأجمل ورغباتنا، طموحاتنا المغدورة التي تكسر أغلبها وأجملها في رحلة الحياة ?!.
يأخذ الاستفزاز وجها آخر حين نجد قصة غرام ملتهبة بين فتى عربي مسلم، وفتاة يهودية، في بيئة ( تدعي) إنها محافظة جدا، هي قصر مدنين في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين وبعد الصدع المرعب الذي أحدثه التاريخ بين العرب واليهود إثر نكبة فلسطين!
(استير )في الرواية شابة شقراء رائعة الجمال آسرة ومحرضة،( وفي شعرها الذهبي عندما تجلس أمام مرآتها لتسرحه ينعكس اللهيب )،مضرمة حرائق في حقول شباب الحارة من عرب ويهود !" فانوس فاتن يضيء ما حوله من ظلمات " كما يصرح مسعود بطل الرواية . هل أحبها الكاتب ? لعله من السذاجة أن يسأل هذا السؤال بالرغم من إغرائه،ومع ذلك فقد سئل يوما : هل أحب " ليوناردو دافنسي" الجيوكندا / الموناليزا ? وكان الجواب : كيف لم يحبها وقد خلد صورتها وحملها معه إلى العالم الآخر ?! و يمكن أن نجيب نحن : كيف لم يحبها وقد جعلها بطلة لروايته? وإذا كان ليوناردو دافنسي قد رسم لوحة واحدة لحبيبته فإن مسعود قد جعل استير موضوعا وحيدا لكل لوحاته وكما كان بطل "ذاكرة الجسد" مهووسا برسم جسور قسنطينة فإن رسام سرنديب مهووس برسم عيني استير المعبودتين فقد جعلهما جحيمه وجنته وكادتا تفعلان به ما فعلت عينا "اليزا تريبولي " بأراقون الشاعر الفرنسي المعروف!
" عينان أندلسيتان زرقاوان تفتكان من المتأمل في اللوحة كل اهتمامه ...!"
وعن طريق الرسم تتنبأ الريشة بمصير هذه العلاقة الملتهبة بين الحبيبين !
–(هذه اللوحة لماذا رسم لها قلبا من الجمر الخامد مع إن الخطوط والألوان تنبئ بحركة عنيفة تحيط بهذا القلب وموسيقى صاخبة تتردد في أرجائه ?!..) إن الإجابة عن هذا السؤال تختزل
قصة حب هذين العاشقين إن لم تكن عنوانا مختزلا لقصة حياة مسعود بكاملها وحكاية كل حب : انجذاب فاشتعال، فتوهج حارق، ثم خمود فهباء فرماد تذروه الرياح ! لقد كان حب وريده في قلب مسعود سانفونية راقصة واعدة بكل جميل غير أن قصيدة (جاك بريفير) التي يدرجها الكاتب بالصفحة عدد 249 تقلب المعادلة وتعود بالقارئ من جديد إلى الجمر الخامد في اللوحة الحزينة
"... وأنحر في عزَ الضحى أحلى أحلام ليالي !..."
ويكون للسؤال الحائر الذي يطرحه البطل في مفتتح الرواية:
" ترى هل سطر القلم الإلهي ما أعانيه الآن... "
دلالات شديدة الألم والمرارة حيث تغدو حياتنا مهما فعلنا قد سطرتها قوة أخرى لا سلطان لنا عليها وعبثا نناطح الأقدار
ما يفعل العبد والأقدار جارية عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
نترك الآن هذه الأسئلة والتي لا نتوقع أجوبة قاطعة عنها ونحاول أن نقدم الرواية في صورة مختزلة جدا:
مسعود بطل الرواية شاب من شباب قصر مدنين انقطع عن التعليم ليساعد أباه في تجارته ، يتعلق بفتاة يهودية من سكان الحارة ويهيم بها حبا، وتبادله هي هذا الإحساس في اندفاع وجسارة ، وتفضَله على(قاروص) ابن عمها اليهودي والذي أصبح غريما لمسعود ،غير أن التقاليد متمثلة في والدي العشيقين، تحول دون ذلك، ويصرَ الحبيبان على الاقتران، مما يدفع بأبي الفتاة للهجرة إلى فلسطين هروبا من ( الفضيحة ) ! أمام هذه الصدمة التي لم يتوقعها ،يتمرد مسعود على التقاليد فيهرب ببغي جزائرية تدعى ( عويشة )إلى فرنسا، ثم تعود هي ذات مرة إلى الجزائر حيث تموت هناك ويبقى هو في باريس يعيش عيشة بوهيمية يمارس حريته على هواه ويقيم علاقة غير شرعية مع(برا ندات)، فينجب منها طفلة هي ياسمين، تكتشف أنها بنت غير شرعية، فيدفعها ذلك إلى التطرف السلفي، ثم تلتحق بالمقاومة الفلسطينية حيث تحب شابا من المقاومة تونسيا هو الآخر ويتزوجان... يموت المقاوم كما تموت ياسمين بعد أن تنجب طفلا تختار له من الأسماء (مسعود) اسم أبيها،يكبر مسعود ويسافر إلى فرنسا باحثا عن أخبار جده فلم يجد إلا صاحبة العمارة التي كان يسكنها وتفتح له المرأة البيت حيث يباشر البحث في مخلفات ذلك الجد من رسائل وصور زيتية وشمسية وبرقيات تلقاها في حياته وبطاقة سفر لرحلة إلى تونس لم ينفذها! فقد بقي في باريس وحيدا منكسر الأحلام في عمارة ينتقل بين طوابقها حتى يوافيه الأجل فيموت في صمت متفردا غريبا
هذا باختصار شديد المنحني البياني الذي تعرجت عبره أحداث الرواية وهو كما نرى يخترق مساحات زمنية ومكانية شاسعة مما جعل العمل يلامس أحداثا كثيرة يعرضها بدقة عجيبة ولا يهمل أي حركة مهما كانت صغيرة وتافهة حتى استحال في كثير من الأحيان "شافطة" عجيبة تلتهم كل شيء ينعكس على مرآتها أو تستشعره مجسَاتها قريبا كان أو بعيدا تاركة جانبا، الاختيار والمفاضلة إلى الآخرين من المؤرخين والباحثين في العادات والتقاليد ليستقوا مواضيع بحوثهم من هذا المرجع الثري جدا الذي يكاد لا يهمل شيئا.
استير في فؤاد مسعود جرح نازف لا يندمل، أٌقوى من الكحول وأرحب من القيثارة. كما يقول رامبو، ومن تذكرها تنبعث صرخة وينطلق الحكي عائدا إلى ماضي العمر ليمسح مسحا دقيقا كثيفا حياة قصر مدنين ملاعب الطفولة ومسرح الذكريات بكل ما فيها ومن فيها. كل مراتع الطفولة وملاعب الشباب زمن الفتوة والعنتريات والحب والحلم مدونة بين صفحات الرواية تدوينا صادقا دقيقا لا يهمل شيئا ولا يغفل عن حركة أو إشارة مهما بدت صغيرة تافهة ! حتى شفرة "الرِّبي" وهو يذبح الدجاج ،وقلوب القرع بلبها الأرجواني المكتنز ،وتنظيف " المغائث " من طرف اليهوديات،وبداية الصلع في رأس عريس ليلة الدخلة ،وهبة هواء تحرك لحية "حائيم " وهو فوق السطح يركب مروحة لتزويد بطارية الراديو الجديد بالكهرباء وطريقة انحناءة احد الشخوص وممن تعلمها ... إلى جانب ألعاب قديمة كانت موجودة بين الشباب والشابات في ربوعنا وبدأت تنقرض مثل (شيخ بلال ، وحلَت، وبَنّي بَنّي، وغيرها ) أو أغاني ترددها النساء ماجنة أو بريئة، كما لا تهمل صراعات شباب الحارة وفتوتها وبلطجيتها الصغار ومعاركهم وطرق بعضهم في تلقي اللكمات وتسديدها، و حتى رائحة القهوة والفطائر والبيرة التي تتضوع في فضاءات الحارة ! مركزا تركيز واضحا على حياة اليهود وسلوكياتهم في حياتهم العامة وفي بيعتهم ، يعيش البطل بينهم ويشارك في أعيادهم وحفلاتهم ويواكب بمنتهى الفرح والاعتزاز حادثة تتويج حبيبة قلبه (استير) ملكة جمال الحارة .! ذكرتني هذه الطريقة في تسجيل كل شيء بقولة (لهنري ميلر ) مؤلف مدار السرطان في حوار له مع " كريستين دي بارتيا "نصها :
(... كنت أريد أن أحشر في هذا العمل كل شيء ، حتى إني كنت أقول لنفسي كل ما أعرفه سوف أضعه في هذا الكتاب ...) وبسؤال آخر وجهته جريدة لوموند الفرنسية للروائي النمساوي بيتر هونكه :
" قيل إنك تحذف ثلاثة أرباع ما تكتب قبل أن تقدمه للنشر ? " فأجاب :" لكي لا أزعج القارئ بثقافتي ، ولكي يجد الهواء فضاء يتجول فيه بين صفحاتي !"
إذا كانت الحارة هي المكان الذي استأثر بأكبر قدر من التركيز في هذا العمل برواتها وتجارها ومومساتها وأغانيها وتقاليد أعراسها وفتوتها مثل أبناء السرائرية (الذين يكونون عصابة منفلتة يهابها كثير من العائلات ) ودراويشها الذين يطلقون النار من عصيهم ويصيبون أهدافهم ويتنبئون فتثبت نبوءاتهم !? فإن السرد كثيرا ما يرتاد فضاءات قصية عن قصر مدنين في لمحات اتسمت في الغالب بالسرعة والإيجاز يأتي ذلك عن طريق شخوص وفدوا على قصر مدنين من بعيد أو غادروا ثم عادوا ( رشا الحلبي وما استتبع ذكرها من معلومات عن جدها التاجر الدمشقي وما وقع له في أسفاره التجارية المختلفة مثلا ) حتى لكأن الهاجس التسجيلي هو الإستراتيجية الذاتية التي أنبنى عليها هذا العمل! كم هائل من الأحداث تتعرض له الرواية، فأجزاء من تاريخ اليهود ( ص57 )، إلى الأسلحة الفاسدة أثناء احتلال فلسطين(ص124)،إلى هجرة بعض قبائل ورغمة إلى القطر الليبي، والصراعات التي دارت بين القوات الاستعمارية وبعض القبائل التونسية ، ومنصور الهوش، والودارنة، إلى صراعات العائلات التركية على الحكم في ليبيا ، إلى طرد الأسبان للعرب واليهود من الأندلس، إلى الفيتنام، وحروب العرب واليهود 67 و73 والمقارنة بين "نبوخت نصر" و "جورج بوش" من ناحية كون كل منهما غزا العراق ونكل بأهله بتحريض اليهود، إلى جانب النضالات السياسية لورغمة، وموقف السلط الاستعمارية من زيارة الزعيم بورقيبة للتراب العسكري ، وغير ذلك كثير مما جعل الرواية تأخذ طريقة الطبري في مؤلفه (تاريخ الأمم والملوك )- والذي يتخذه الكاتب مرجعا ينطلق منه ويعود إليه! - في سرد الأحداث بطريقة لا تهمل شيئا يختلط فيها الواقعي بالعجائبي والتاريخ بالخرافة ويطالها الاستطراد في مواضع كثيرة !
استعمل الكاتب أغلب تقنيات القص : السرد المباشر ، والحوار،وأسلوب المذكرات،التناص، والصورة زيتية وفوتوغرافية ،كما نوع الرواة حيث جعل الراوي الأساسي ،يفسح المجال لرواة آخرين ،إما بالسرد المباشر، أو بطريق إيراد مذكراتهم. كل ذلك في سبيل إنارة كثيرا من أقبية الحارات والمساكن الخاصة والأماكن قصية وقريبة ، وما يكتنف ذلك من علاقات بريئة ومحرمة حيث يعمد في كثير من الأحيان إلى فضح المستور وتعرية بعض التصرفات المنافقة التي يحاول أصحابها التستر عليها بالتظاهر بالعفة والوقار تجارا كانوا أوسوقة أو قضاة أو حتى إخوة يتنازعون أبوة مولود !...
تستقطب الرواية في الغالب الطبقات الدنيا من الشعب تلك القاعدة العريضة من المجتمع التي تصنع الجزء الهام من تاريخ الأوطان وعاداتها وتقاليدها والتي يهملها في الغالب مؤرخو السلاطين ولا يكاد يسمع لها ذكر إلا إذا ادلهمت الأجواء وهددت المخاطر البلاد!حيث تكون هي وقود الثورات ودرع الوطن وذراعه الضاربة وصانعة أحلامه ! وكما هي في الواقع وفي هذا العمل أيضا ليست من الأنبياء ولا من الشياطين هي بشر فيهم صلاح وطلاح وخير وشر وخبث وبراءة وهي بتفاعلاتها اليومية تصنع القيم والتقاليد والأخلاق منها ينشأ الساسة والزعماء والخونة والقوادون والوصوليون ،الزنادقة والزناة وأهل الصلاح والخيرون، وكثيرا ما استهوت هذه الشريحة من المجتمع الأدباء والمبدعين عموما ولربما كانت أجمل إبداعاتهم هي تلك التي تصور حياة هذه الطائفة! ولعل الجاحظ كان أول من التفت إلى هذه الشريحة وربما كان اهتمامه بها هو وحده ما منح أغلب آثاره الروعة والخلود! ولعله من الطريف أن نلمح نوعا من التشابه بين أسماء هذه الطائفة عند كلا الكاتبين بالرغم من تباعد الأزمان حيث نجد في كتاب اللصوص للجاحظ أسماء مثل ابر يقيا ولوقيا ودوما ني ) مثلما نجد في سرنديب جلَك وفريتز والدَبرز والطابو . وغيرها...)
تنفتح الرواية على نهايتها حيث يطالعنا مسعود وهو في آخر أيام العمر قد فتك به المرض ولم يترك منه إلا بقايا إنسان، هجرته العشيقة وهربت مع شاب آخر... ولا عزاء له إلا في زيارات ياسمين المتباعدة شيئا فشيئا حتى تنقطع في النهاية تاركة مسعود للوحدة تغتاله الذكريات ، ويتم عن طريق التذكر سرد كل الأحداث . حيث يعمد الكاتب إلى مسح شامل لأحداث جيل كامل بأدق التفاصيل أحيانا !
الفصل الأول خصصه الكاتب لحياة البطل في باريس حيث نكاد نلمح نماذج من أفكار المثقفين في الفترة التي أعقبت الحرب الثانية حيث ظهر في أدبيات تلك الفترة ما يشبه الإحساس بعدم جدوى الحضارة وتخلخل المثل التي قامت عليها من تسامح وحرية وتنوير وحلت الحروب والنزاعات وقهر الشعوب محلها، وظهر لهم العالم كأنه قد وصل إلى نهايته وبدأ يتحلل أخلاقيا واجتماعيا في مجون هستيري فنشأت اتجاهات فكرية مختلفة، من لا معقول وسريالية ووجودية ودادية وعبثية وغيرها. يلامسها البطل في ثرثرته المحمومة موردا جزءا من مسرحية "المغنية الصلعاء " التي كانت صرعة في زمانها معلقا على أحداثها تعليق الناقد الخبير مما يؤكد انخراطه في أجواء المثقفين الباريسيين في تلك الفترة،وحضور بعض حلقات الحوار حول اهتمامات تلك الشريحة من مهمشي باريس ومدى ثقافته واطلاعه، كما يتناول الطبري بما يشبه التهكم من معالجته للإشكالات والقضايا التي تطرحها الحياة مقارنا بينه وبين هولاء المثقفين .حيث يبرز التقابل بين جدب الروح عند يونسكو وكثافة الحلم عند الطبري ! نكتشف مواجع البطل الوجودية وشكه وحيرته في أكثر من مكان في هذا النص، ففي ثرثرة بو عضلة الفحل مثلا تداع حر، فيه الفلسفة والدين والشك والحيرة أمام عالم يظل مغلفا بالأسرار عصيا على الفهم وتكاد هذه الثرثرة تلامس أفكار ( يونسكو ) في الفصل الأول من الرواية.
سالم دمدوم بنقردان
في 15/09/2008
----------------------------------------------------------
1 - عبد الرحمان منيف لوعة الغياب ص206
2- الكسندر اليوت : أفاق الفن ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ص 53
3- ملحمة جلجامش ص 70اللوح 10 العمود 3
4- سرنديب ص51
5- سرنديب ص 13
6- الحلاج
7- جريدة أخبار الأدب العدد 349 مارس 2000