لا أريد المضي أبعد مما مضيت مع هذه المجموعة، فالمكان الذي أرتاده غني بأخباره وثماره وشخوصه ، ضاحك باك ، مؤنس مرعب ، شاك ومتيقن ، ساكن هادي ومتقلّب ضاجّ ، حزين ومبتهج أليف ومشاكس ، واضح وغامض يوقظ الفكر والوجدان فإذا الشكّ والحيرة والاكتئاب والبسمة وحتى النحيب والقهقهة أحيانا، يلف هذه المتناقضات كلها ، فضاء رجراج بين المألوف والغريب .
المكان مغر، والحضور كثيف : رجال دين ورجال فلسفة ، ورجال تصوف متدينين حقيقيين قلة ، وأدعياء دين منافقون كثر . رجال أدب ورجال علم ، رواة
ومحدِّثون ساسة وحاكمون ومحكومون ، أطفال وشيوخ ، أنس وجن ، عـشاق ومحبون ، أساتذة وتلاميذ ، تلاميذ وتلميذات. وليس غريبا أن تجد في هذا المكان رجال عرفتهم يوما، عن طريق رجع الصدى، عبر أخبار أو أشعار شاركوا من قريب أو بعيد في نحت شخصياتنا. فإذا المعري في شكه وتردده والطبري في غريبه ، والغزالي في" منقذه و تهافته " والجاحظ في حيوانه وبيانه وتبيينه ورسائله ، والدوعاجي في جولته بين حانات البحر الأبيض المتوسط وسهرات لياليه هذا إلى جانب رجال آخرين من أهل التراث، تلمح طرائقهم في التعبير، وفي تسمية كتبهم ورسائلهم. كما لا تعدم حتى صدى أهل اليونان ومقولاتهم في الهندسة، وحتى الفراعنة بأعيادهم وتقاليدهم، كل ذلك تلمحه وتكاد تحسه في ومضات خاطفة ملتبسة، بين السخرية والبراءة، تومض بها ثقافـة صـاحب النـص، ومرجعـيته المتنوعة . وكم أحب النص الذي تظهر فيه ثقافة المبدع في الزمان والمكان المناسبين بعيدا عن إدعاء المعرفة والتبحر .
لا تظنّن أبدا ،أن هذا المكان غريب، ومتخيّل ، فهو في حقيقة أمره داري ودارك ، مدينتي ومدينتك ،بعوامها ومثقفيها ، ابني وابنك وابنتي وابنتك ، واقعنا ،حياتنا وطرائفنا في الاحتيال لأمرنا والسعي إلى صيدنا ... كلنا صيادون لكن الشباك تختلف .
منا من يصطاد حريفا ، ومن تصطاد عريسا، ومن يصطاد عشيقة، أو منصبا أو حظوة ،عند أهل الحل والعقد .وغيـر ذلك كثير .
لو مضيت مع هذه القصص واحدة واحدة، لوجدت نفسي في النهاية وبعد التعب والإجهاد، قاصرا عن الإحاطة بكل ما تثيره في القارئ المتبصّر، من نقاط استفهام، وما تغمز به في " خبث " إلى كل ما يجري في حياتنا اليومية، كل خطوة نخطوها، وكل تصرف نقوم به، فيه خلال هذه النصوص " نظرٌ وتحقيق " وعليه تعليق وفيه أقوال " لا قولان " مهما دقّ ، ومهما خفي ،ومهما كان عاديا مغرقا في البساطة .
" فقدان شاة من زريبة " يصبح مشكلا لأهل القرية ... وما جعله هكذا إلا الأب والأم المتستران عن الإبن، الذي سطا على الشاة خاصة وهما في وضع خاص فلا يريدان أن يظهر الابن سارقا في نظر خطيبته التي سيتقدّم لخطبتها قريبا ...
وهكذا هي طــرائقنا فـي معالجــة أمورنا ، النفـاق دائما ،والتظاهر بالعفة والبراءة، بدل الصدق والمواجهة الصّريحة.هكذا تضل الحقيقة حقيقة يعلمها كل الناس، من الجار وحتى مجلس العمدة، ولكن لا أحد يصدع بها ،لأن ذلك سوف يفضح فساد سلوك أبنائنا، وسوء طريقة أسرنا في تربية أبنائها ... بل يتواطأ الجميع على طمــس معالم الجريمة ،ويصرّح العمدة بأنه ألـزم امرأة ،أن تقسم الإيمان، على أنها رأت النسور تختطف الشاة ...وهكذا يقفل الملف وينتهي الأمر .
هكذا تتردّى الأمور ويفكر الحاج التيجاني في الإصلاح وإعداد كتّاب يتعلّم الصبيان فيه حسن السلوك، ويكون للناس موعظة وهداية. فإذا الزوجة تحيله على أبيات للمعري تقطر يأسا من إصلاح مجتمع جعل الدينار إلها ... و إذا نحن لا نملك إلا أن نردّد مع المعري :
خسئت يا أمنا الدنيا فأف لنا أبناء الخسيسة أنذال منا كيد!
وإذا . فلا مناص من التوقف عنوة عن الإيـغال في الأدغال أدغال اهتماماتنا ، وهمومنا اليومية ، المبثوثة بسخاء عجيب في هذه النصوص، وبعجالة كاللمح الخاطف أريد أن أشير إلى ما يلي :
1- أهملت عمدا الاهتمامات القومية والسياسية في هذه المجموعة- ماعدا لمحات سريعة كالبرق - مؤجلا ذلك إلى فرصة أخرى ربما تجود بها الأيام .
2- لئن تعمدت إهمال ذلك الجانب، فلا أرى من الوجيه الانتهاء قبل أن أقول شيئا ولو يسيرا عن أسلوب بعض هذه القصص، فإذا هو ذلك النوع من الأساليب، التي تتّخذ من العادي والبسيط والمألوف، مادة تشكل بها أروع إبداعاتها، التي لا تعتمد الجزالة والفخامة والشاعرية وتكتسب شاعرية خاصة بها، تقيمها في العمق فيتردد صداها عبر المشاهد والمواقف، بين القصص والحكايات الضاحكة المتهكمة، في إيجاز مدروس واقتصاد متعمد ، أسلوب يريد أدبا مهموسا ، أليفا وإنسانيا، يفتح في كوى العادي مشاهد للفرجة والتوق والحلم حين يبدأ في معالجة الواقع .
إن هذه النصوص هي أكثر بكثير من مجرد تمرين أدبي وهي تؤسس لحكمة وتنطوي على موقف، ونظرة إلى الدنيا، مجردة من الوهم والخداع، بتهكمها وسخريتها وشكها وريبتها، ومفاعيل رؤاها ووضوحها، كما يقول الناقد الفرنسي " ميلان كون ديرا " في كتابه الموسوم " بالستار ".
هذا الأسلوب المتجزئ ،الذي يحيل على أساليب القص العربي متلمسا إيجازها وبلاغتها ، وطرق تبليغها. أبطاله عاديون بعيدون عن العجلة والتوتر. ألفاضها جميلة وبسيطة وباسمة، تتوهج عند التأمل كما تتوهج زهرة " الصليعاء"( )غب المطر. فاستطاع كاتبها بهذا الأسلوب، التسلل إلى كثير من خفايا النفس البشرية، مسلطا عليها نورا كاشفا، بطريقة لا تتوفر حتى لبعض علماء النفس المحترفين .
تحضرني في هذا الصدد قولة لعالم النفس الشهير " سيجموند فرويد " :" الشعراء والقصـاصون ،هم حلـفاء لنا ( نحن علماء النفس ) موثوق بهم، وشهاداتهم يجب أن تقدر تقديرا كبيرا ، لأنهم يعلمون أشياء بين السماء والأرض ،لا تستطيع حكمتنا المدرسية أن تحلم بها، إنهم معلمونا في معرفة النفس البشرية ..."
إن التجزئة في الكتابة، توفر مزيدا من الحرية للمبدع، فهي عن طريق العنونة الفرعية ، تيسر التعدد والتنوع . فالعنوان محـطة يــتغير فيها الراوي، وفرصة للقارئ لتجديد الانتباه، والاستعداد لما سيطرأ على السرد من تحول ، من حيث مضمون المستوى الحكائي، أو مضمون الخطاب ،.علاوة على ذلك فإن هذا الأسلوب يجعل السارد في غنى عن الاحتيال واقتناص الفرص التي تمكنه من ربط الأحداث والأفكار ببعضها لكي يحافظ على تماسكها وتسلسلها كما هو في السرد " التقليدي "
بقلم سالم دمدوم